Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


معرض تشكيلي وتحية لسعد الله ونوس  

 

في حوار طويل له مع الدكتورة "ماري الياس" الأستاذة في المعهد العالي للفنون المسرحية يقول الأديب الكبير "سعد الله ونوس" "لو سألت أي إنسان سليم ومعافى ما هي الحياة؟ فسيعّرف هذه الحياة بتوصيفها.. يستيقظ الناس صباحاً، الإنسان العامل يذهب إلى عمله، المرأة التي لا تعمل تقوم بمهماتها البيتية... تبدأ عمليات اجتماعية من أنواع ومستويات مختلفة ومتباينة ومتنوعة... لقاءات اجتماعية في العمل ولقاءات اجتماعية في البيوت... النساء مع بعضهن من جهة والرجال مع الرجال من جهة أخرى ... لقاءات في الشارع... مشاكل الشارع ومشاكل المواصلات... هذه الحياة العامة هي الصورة- لا أريد استخدام كلمة السالب (نيغاتيف الصورة) لأنها ليست دقيقة – هي الصورة التخيلية (Fictive). الحياة الفعلية تتم وتدور في الدهاليز المظلمة والغامضة في دواخل الأفراد، وفي متاهات العلاقات التي تبدو غامضة وسرية أحياناً وغير مفهومة... هناك، بين هذه الدواخل ارتباطات وعلاقات لها أسماؤها طبعاً... مثل: الأسرة، والصداقة، والعلاقة، والقرابة، والزيجة، ولكن هذه كلها أسماء لعلاقات سرية وعميقة بين ما يستتر داخل كل فرد وبين المجتمع الذي يحيط به، ابتداء من المجتمع الصغير إلى المجتمع الكبير.
هذه الحياة الفعلية التي تتم في نصف العتمة وفي نصف الضوء، التي تشكّل الدافع والهاجس الأساسي في الوقت نفس، حافز كل شخص منا للتمظهرات التي يظهر فيها في العالم الخارجي. هذه هي الحياة الحقيقية، هذه هي الحياة الفعلية التي غالباً لا يكشف عنها، والتي تستبدل بحياة مظهرية خيالية مليئة بالأكاذيب، مليئة بالمظاهر".
ويضيف ونوس " اليوم... وقد أكون شعرت بذلك قبل سنة ولكن بشكل أقل وضوحاً، إن الحياة كما تبدو في الظاهر هي مسرح وغالباً هي مسرح تجاري... مسرح استهلاكي".
-       انتهى كلام ونوس –
الحياة الحقيقية تتم في نصف الضوء وفي نصف العتمة... والحياة تبدو في الظاهر مسرحاً من وحي هاتين الفكرتين اللتين وردتا على لسان سعد الله ونوس الأديب المسرحي السوري الكبير وأحد المجددين القلائل في المسرح العربي، صاغ الفنان التشكيلي أحمد معلا لوحاته الإثنتي عشرة ليشكل منها معرضاً خاصاً في إهاب مسرحي يكتظ بالرموز والدلالات المكانية- الزمانية، ومن أجل توجيه تحية إلى الأديب ونوس في وقت عصيب يصارع فيه الموت منذ عدة سنوات.
افتتح المعرض مساء الثلاثاء في الخامس والعشرين من آذار الجاري في صالة "أتاسي" للفنون الجميلة في دمشق كواحد من المعارض الهامة والذي تتجسد أهميته هذه في روح التجديد التي تتسم بها معارض أحمد معلا، حيث يحول الآن العمارة الداخلية للصالة إلى فضاء مسرحي بأجواء تقارب أجواء المسرح من أجل منح المشاهد فرصة للولوج من الشارع اليومي إلى داخل طقس بصري ومكاني وموسيقي ضمن مجموعة من العلاقات التشكيلية بالأبيض والأسود، اللونان الوحيدان اللذان تتشكل منهما اللوحات وجدران المكان وفسحاته وروحه وهما لونا المسرح أو اللونان اللذان من مفارقتهما والعلاقة بينهما يتولد لون المسرح.
يأخذ أحمد معلا على عاتقه ولوج عوالم المسرح وحيداً مع ريشته، فلوحته وخيال سعد الله ونوس الذي تتظلل به اللوحات يطل على المشهد المسرحي الأنيق الذي صاغه في أرجاء صالة أتاسي، وثمة في صدام الأبيض والأسود في اللوحات كثير من المسرح وكثير من التشكيل وقليل مما قد يوحى به من وضوح فكري لحساب رؤى وخيالات وشطحات وظلال أفكار ومعان تتسلل إليك بمجرد دخولك المكان.
ثمة في المكان أجواء موت... ورائحة صراع وعنف وقسوة، وثمة إيحاء في النهاية الحذر والسكينة المفتقدة، ربما لأنها لوحات أحمد معلا التي تكتنف النقيضين دائماً، حدي الفكرة، أو الفكرة وعدمها.
الشاعر السوري نزيه أبو عفش وهو من شعراء الصف الأول يقول معلقاً على المعرض "ربما لأنني لا أثق بمن يرجون للأمل... أنظر إلى مشروع أحمد معلا الجديد على أنه صرخة تضرع أخيرة يطلقها الإنسان من علياء كوكب يتصدع، رسالة استغاثة باسلة - ولكنها يائسة– يلقيها داخل زجاجة ما، آخر بحار على سطح سفينة تغرق.
رسالة استغاثة موجعة سبق أن تلقينا أصداءها الأولى منذ قرون وقرون: من إلياذة هوميروس... من جحيم دانتي، من حشود ميكل أنجلو المتأرجحة بين وعود السماوات وخيبات الأرض... إلى كائنات غويا المطحونة بالعذاب، والحيرة، ونفاذ صبر الإنسان.
عمل أوبرالي أشبه ما يكون بإلياذة بصرية تنهض في مناخ دانتوي يمزج الجحيم بالفردوس، كرنفال طقسي خلاق يخلط التراجيديا بالتهكم والقداسة بالإثم والسعادة بالألم والعفة بالمجون والحكمة بالندم أو بالعذاب!!
مسرح غرائبي يقدم الحياة مشخصة كما في الكابوس، حية، غنية، متناقضة ومزرية وعابثة إلى درجة تصيب العقل والقلب بدوار هو: دوار الحياة.
مزيج من خيال شاعر وخيال مجنون قلب مكتظ بهشيم بشر وهشيم حياة (واستغراب كيف أن هذا القلب ظل قادراً على ألا يتهشم أو ينصدع!!) بداية قول جديد، وصرخة جديدة أثق ( ولماذا أثق؟!) أن دويها لن يختنق أو يضيع.."..
أما أحمد معلا، الفنان صاحب المعرض فقد آثر أن يهدي مع المعرض كلمات إلى الأستاذ سعد الله ونوس آثر فيها أن يهتك كل ستر أو حاجز نفسي في خطاب مباشر صريح وغني يقول باختصار" لا نختار مكان ميلادنا، ولا نحذد زمنه ولا ننتقي أهلنا، لا نشرف على الثقافة التي نمتص من أصابع الأم وأشكال الأبنية ومهماتها. ثم لا نلبث أن نكتب من اليمين إلى اليسار، ونتألم لهذا ونفرح لذاك ونغضب من شيء ونسر من ضده وإذ نكبر بين ظهرانينا تلتمع في دواخلنا يوماً بعد يوم الأصوات والشعارات، الصور الرموز، الروائح... راسمة لسحناتنا انتماءات نعي زلقنابها، فنمح هوية، وأخرى، وأكثر..
كان الفرات ينطلق جادلاً كل شيء، مغرقاً فهم المبهم، يراكم في الأفق زقورة، حاضناً الحياة.
كان الفرات... ولهذا سأكره المستنقع ما حييت.
(...) معرضي الحالي، هو بحث تشكيلي خالص مبني على انتمائي للإبداع والتجريب ومحاولة لضبط وتكثيف تجريبي التي أعرض منذ عام 1988 دون الوقوع في يقين نهائي.
وكي لا يساء الفهم أوضح بأن هذا المعرض ليس قراءة لأعمال مسرحينا الكبير(سعد الله ونوس)، ولا رسوماً توضيحية لنصوصه، ولا استيحاء من شخصياته، ولا مقاربة لأفكاره. إنما تأخذ التحية معناها من قيمة الأداء المباشر على سطح اللوحة والتقسيمات المنظورية التي تتجاوز فيها أو تتطابق، من تجهيز الفضاء المعرضي، واستخدامات الإضاءة والموسيقى وأسلوب العرض إلى جانب التقشف اللوني والتفاعل البصري للإنسجام والتناقض ووحدة المجموع التشكيلي والبحثي والأفق الذي أطمح إليه من الإنجاز "التنصيبي" وأبعاده الفنية.
تأخذ التحية قيمتها من أدواتي كمصور "ومنصب" ومن فعلي التشكيلي، ومن قدراتي على الخلق والتحقيق، ومن حساستي لما يدور حولي، ومن تصعيدي لما يعتمل في داخل جلبة صور تتخمر منذ قديم فأستبدل الخطوط بحقول من الضوء والعتمة، تختزل الحضورات إلى ضربة بسكين.
عدوانية وموت عنف، ضراوة وعذابات، غضب يحتقر الضعف، هو ما يدفع يدي نحو فراغ اللوحة.
أما نتقاسم معاً جميعاً وسعد الله ونوس منذ 1958- المكان الزمان المجتمع والثقافة والأحداث؟ وإن لم تجمعنا صداقة حميمة في الصورة إلا أن التعاطف يأتي من كم المشاعر والأحاسيس المشتركة وإيقاعات امتصاصنا للخيبات والمرارات.
هي تحية لدأب المبدعين وصراعهم في سبيل مشروعهم مع الضنك واليأس والمرض والألم ، الموت، من خلال سعد الله الإنسان.
رفيق قوشحة