Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


مهووس برسم الحشود.. لا يكتفي باللوحة فيجعل منها مسرحاً  

 

اسم أحمد معلا يتردد بقوة وسط جيله، ولوحته من المحاولات الأكثر إلفاتًا في تجاوز فن الرواد السوريين والعرب، أحمد معلا الذي قضى شطرا طويلا في فرنسا، أقام معرضين "ميرو بثلاثة أبعاد" الذي يجسم في جانب منه عناصر من لوحات لميرو. أما معرضه الثاني "تحية إلى سعد الله ونوس" فعبارة عن جداريات عريضة في إضاءة وجو مسرحيين، في معرضيه هذين لا يكتفي معلا باللوحة ويمزج بينها وبين النحت وفن الإنشاء، هذا حوار معه:
·        إنك في حالة بحث دائم عن أدوات تعبير فنية جديدة، هل تحدثنا عن ذلك؟
شكل هذا البحث –بالنسبة لي- هماً شخصياً منذ زمن بعيد، وربما كان أساسا لفعالية عملي الثقافي في مجالات متنوعة: المسرح، السينما، التلفزيون، الخط العربي، تصميم الكتب والإعلانات والمجلات ...الخ، الى جانب عملي الرئيس في مجال التشكيل. وفي تجاربي المتعددة، بحثاً عن الحرية، من خلال الدعوة إلى المزيد من الأخطاء، رأيتني أقترب رويدا من عالمي، قصيدتي / لوحتى حيث تتسع حدود العمل الفني لتخلق فضاءً جديداً، لا ينتهي هذا الفضاء في اللحظة التي أتوقف فيها عن العمل به وإنما يستمر في امتداده إلى داخل المشاهد الذي يمنح مفرداتي وعناصري التشكيلية حضوراً أو وجوداً جديداً.
 فحوض الماء الذي استخدمته في معرضي (تحية إلى سعد الله ونوس ) وصل بالتباس شعري إلى حلولات جديدة: مرآة، هاوية، حوض أسيد، محيط، قبر، مثانة ممتلئة..الخ. إنني أنتقل بأدواتي من مجرد خلاق لصور إلى خلاق لعوالم /لطقوس/ لجسد يحضن المشاهد بذراعين مشحونتين بمرارات وعذابات تاريخ طويل من البحث عن جدوى الصورة، ومدى حقيقتها!
لا أتصور وجود الفنان دون امتلاك القدرة على ابتكاره للاختلاف / للمختلف، أظن أن ( باسكال) هو الذي قال بأن عالم النحلة كامل، أما عالم الإنسان فناقص، ولهذا يتفوق الإنسان على النحلة.
كائن إسمنتي
  • إذن، استخدامك للعناصر المعمارية الموجودة في مبنى المركز الثقافي الفرنسي في معرض ميرو بثلاثة أبعاد؟!
الفضاء المعماري الداخلي للمركز الثقافي الفرنسي بدمشق بحد ذاته كوّن عنصراً انتقائياً كأداة لفعالية تشكيلية: تنوع في المواد، حركة صاعدة هابطة، مساحات أفقية وأخرى عموديه، بروزات وفتحات، مكان التقاء اجتماعي، صالة عرض مسرحي وسينمائي، مكتبة مدرسة...الخ.
 
كائن إسمنتي، وظّفته لموضعة أعضاء فيزيولوجيا عالم ميرو، والدخول هو تشريح هذا الجسد، وتذوقه نيئاً. ما نشرته، هو إدخال المشاهد إلى داخل "اللوحة" إلى داخل العمل الفني والحيّز الفيزيائي الجديد، هنا يغيب البعدان المعهودان في اللوحة ليتحرك المشاهد الذي ألبسته عباءة ملونة في عمق بعد جديد لتحاشي النشازات، في فن كأنه لعب أو لعب هو الفن خالصاً، كما تتصل الشيخوخة بالطفولة وينقشر عن الحلم غلافه المقدس.
أنت إذن في عالم الآخر، في مملكته، ملكاً مثله، رغم تهديد صخرة تسقط من علياء المكان، ولا تعيرها انتباهاً، مع أنها تستحق ذلك، تضبط بأشكال شموس وأقمار ونجوم تقترب منها إغفاءة طفل بحذر، وربما نبيّ أشكال وألوان يعلنها معجزة لبساطة موادها وسطوحها. أغنى ما في هذه التجربة كان بالنسبة لي إقدامي على إنجازها وتحقيقها، مما وضعني وجهاً لوجه أمام أهمية الطقوسية التي استثارت اهتمام الجمهور، لحضورها وعيشها، مما جعلني أعيد النظر بأسئلة لطالما تكررت في وسائل الإعلام عن انفضاض الناس عن التشكيل وعن الأمية الفنية عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الفن التشكيلي والمجتمع. لنقل إذن: لا توجد مجتمعات أمية فنياً، قد لا يعرفون تاريخ الفن، وأسماء أعلامه، معركة مذاهبه واتجاهاته، لكن الفن ليس هذا، والإشكالية المطروحة مسبقاً مضللة، ومسوّقة لأفكار فوقية أصابت التلاقح بين الجمهور والفنان بالعقم.
الناس بحاجة إلى الفن الذي يرافق حياتهم كرغباتهم المعلنة والمكبوتة، كظلالهم الظاهرة في النور، المتخفية في العتمة، وما على الفنان سوى ابتكار هذه المساحات التي تؤكد هذه الحضورات.
فالإغراق في تناول أدوات العمل الفني وأنساقه وشروط وأسسه وعناصره فقد يؤدي إلى فقدان الوعي بالأساس / الأصل. وكأن الاتساع الأفقي يجعل الرؤية غير قادرة على استكناه العمق، ولهذا رأيتني أحاول التخلي عن كثير من المهارات الحرفية لمصلحة الجذوة المنتعشة للعمل في الفن، في الإبداع، وكائناته.
  • معرض تحية إلى سعد الله ونوس، التقنيات الحديثة المستخدمة أيضاً، ما هي ؟
بين معرضي "ميرو بثلاثة أبعاد" ومعرضي "تحية إلى سعد الله ونوس" قمت بإنجاز مئات الرسوم تحت عنوان "احتراقات إنسان" في مقهى البرازيل بفندق الشام بدمشق، كانت لي طاولتي، مرسمي، وهناك بالقهوة والباستيل، تساءلت، واقتنعت، وكرهت وأحببت، ونجحت وفشلت مراراً كل يوم، كل يوم لأشهر، بحثاً عن غرابات وعذوبات وأجساد وما يناقض، وعن شياطين وملائكة، وظلال وإنارات وما يوازي، راحت تتكدس مع مرور الوقت وفي المرات التي كنت أحتاج فيها تحقيق فراغ معماري أو سينوغرافي للأشخاص الذين أموضعهم هنا وهناك على سطح الورقة، وجدتني مغموراً بهاجس الطقس الذي تسرب إلى مخيلتي - ربما لأول مرة في الثمانينات - ولم أبدأ بتسلمه واقعياً إلا في معرض عام 1993 وجرأت على تحقيقه في "ميرو بثلاثة أبعاد". في هذه الفترة كان سعد الله ونوس يصارع المرض، ورسمت أكثر من زيتية كان سعد موضوعها /كالمرضى يستيقظون أبكر من غيرهم/ والعلمانيون في السجن /و/ ما أضيق الخشبة/. ثم بمرارة الإحساس بخسارة جيل تنويري في حين تتقدم الظلامية في المجتمع العربي، رأيتني منقاداً إلى دراما الفرد والمجموعة، أنا الذي لم أتخل مرة عن رسم الحشود، في هوسها القطيعي مأخوذة كالموج أو في حركاتها الكتيبية حيث تفشل حبة رمل في الاستقرار فتجر خلفها كارثة.
أقول، رأيتني ناشطاًُ لإنجاز جدارية ضخمة بالأسود والأبيض تاركاً لما جمعته خلال عمري أن ينفرش على سطوح اللوحات كقصيدة لن تنقّح، كأنني أرقص أو أصرخ، كأنني أحاول النجاة من غرق سفينة كونية.
هذه اللوحات التي أنجزتها قابلة للعرض، كمعرض تقليدي وكان يمكن لي أن أعلقها على الجدران لامتلاكها الكفاءات التصويرية والغرافيكية اللازمة. حتى أن بعض الأصدقاء لم يكن متفقاً معي على خلق طقس بها، وإنما عرضها كما، هي ولكنني كنت أبحث عن طقوسيتي، وأريد أن أظل أميناً لفكرة إشراك المشاهد كاملاً بمادتي، إذ لا يمكن أن تلج الماء دون أن تبتل. هذا ما أريده، وهذا ما أريد تخليص الآخرين من تصوِّره.
 لهذا أغلقت النوافذ والأبواب، وغطيت السقوف بالأسود، واستخدمتُ تربة بركانية سوداء لتشكيل الأرض، ثم قمت بنحت قطع وعناصر وظّفتها هنا وهناك داخل المكان لتغيير وظيفته المعمارية ودلالاته الناصعة الموحية بالأمان، إلى مكان مهدد ضيق، ووضعت حوضاً مائياً في أحد الأركان. ومن هذه العتمة المطبقة خرجت الأشكال والحجوم، باستخدام إضافة مسرحية خافتة ترافقها موسيقى ولفّها خصيصاً للمعرض، الفنان فواز الجابر الذي افتقدناه بمرارة بعد المعرض بأشهر.
 كان على المشاهد هذه المرة أن يفتح باب الصالة بيده، ويدخل، ثم يغلق الباب خلفه، ليجد نفسه عرضة لعمى مؤقت نتيجة انتقاله من النور المبهر إلى النور الخافت، وبينما تنفتح حدقتاه رويداً رويداً يكون قد تورط بالإحساس بأن المكان كان يراه قبل أن يتمكن هو من المشاهدة.
تمكنت بعد المعرض من استنتاج صحة طموحي فيما يخص طقوسيتي بالجمهور، فقد تزايد الجمهور يوماً بعد يوم، وحضر المعرض أناس كانوا يعترفون بأنهم يزورون تجربة تشكيلية لأول مرة، وآخرون لهم باع في هذا المجال لهذا أعتقد بأن البحث عن أدوات مختلفة - جديدة للتعبير، وتقنيات متنوعة، ومشاركة بين الفنون، هو الذي يجعل جديد الفن مؤثراً، ويعطي للعمل مصداقيته.
 إن الطقس الذي أقدمه هو كائن كامل، عليك التعامل معه بكليته وبأجزائه معاً، هو ليس مفردة مني، ولهذا فهو يستحق الغوص فيه، ويفرض عليك أن تبتل بمائه.
 
نقايض الجمال بالموت
  • حولّت المتلقي –إذن – إلى جزء من العمل الفني..
بالضرورة، فهذه المعارض / الطقوس، ليست معرضاً تسويقياً، حيث لا يمكن أن تشتري لوحة أو كتلة أو ضوءاً.. الخ إنه في الأصل وفي الآخر عمل لا يتم إلا بمشاركة المشاهد فيه، بوجوده داخله، فالكراس المرافق للمعرض -على سبيل المثال- لا يعطي سوى فكرة بسيطة، لأن الأمر يتعلق بوجود الكائن بالمكان والزمان المحددين، كما لو وجدت نفسك على سطح القمر، لا هواء، لا جاذبية، حيث تحتاج إلى مرجعية مختلفة لتناول الحياة. وفي معرضي كذلك عليك / عليه / عليّ تجرّع الحياة من ماء ثمرة غريبة.
مرة في طفولتي خانتني الإشارة، فقضمتُ ثمرة حنظل، كانت تبدو كتفاحة نبات أرضي في البداية، لكن فمي بقي مفتوحاً، ولعابي صار زجاجاً، هكذا أو عكسه يكون الفن، غواية كالسم، كالحبر، كثمرة مكعبة لشجرة تتزخرف ملتوية، ولهذا نقايض الجمال بالموت.
أنا أول المتلقين وآخرهم. في عملي أزرع بذاراً غامضة، ليس ببراءة الأطفال، ولكن بقوة حضوري كإنسان، كمبدع، لأرى فيما بعد إن كانت إحدى زهورها ستودي بي. وهذا ما يجعل التواصل بين الجمهور والفنان عنصر تواصل يكاد يكون فيزيولوجياً. وإلا كيف يعيش المتنبي إلى اليوم، ولماذا يترك غاغارين في دواخلنا كل هذا الحشد المغبط من الأحاسيس بروعة الحياة، ولماذا يستمر موت المسيح متألقاً إلى اليوم.
  • التجربة الحياتية الموصوفة بالمشاكسة والتمرد وانعكاسها على التجربة الفنية لأحمد معلا، علاقتها...؟!
لا بد أنني أحمدات، ولست أحمداً واحداً، لكنها الحياة هكذا بموضوعية تجعلك واحداً، ومتعدداً في آن. هو الزمن / الوعي / الذاكرة. إن لم أختلف، أقاطع، أقطع، أشاكس، أتمرد، لا أكون الفنان. وأنا أسعى لأن أكون "الفنان".
فالاختلاف يعني أن تعي ما ستخالفه، والمقاطعة تعني الانصهار بالتجربة التي اخترت، والقطعية تعني اكتشاف عدم صحة ما تقطع معه والمشاكسة إرادة التحرر، والتمرد هو البحث عن عدم الانضواء تحت ما يلغي إنسانيتك.
لهذا يمكننا استخدام مفردات أخرى لا تستثير غيظاً، ولا تؤلب حنقا فأقول: أنا واع، ومنصهر، ومكتشف، ومتحرر، وإنسان. أما الأنبياء والشعراء والعلماء من هذا الصنف من البشر؟!
هل تنتظر فناً جديداً، أو إنساناً جديداً دون تمرد أو مشاكسة دون خروج، وهل يمكن أن تعيش هذا في إطار ضيق يخص إنتاجك الفني دون أن يكون قد نشأ في ميدان علاقتك بالمجتمع وثقافته. لنقل إذن، ان العاقين يصنعون التاريخ، والعقوق هنا ايجابي، كعقوق غاليليه وكوبرنيكوس والكثير غيرهما.
الرحلة التي نقطعها هي التي تفضي إلى استشراف آفاق جديدة، وفي كل مرة علينا أن نتحرك لنتخلص من صدق ما ظنناه حقيقة، علينا أن نكره ما نحب لنتمكن من محبة جديدة، وفي الفيزياء الكوانتية نتعلم أن أحجارنا التي صنعنا منها هرماً لن تمكننا من صنع كرة إلا إذا هدمنا الهرم، وكأن إنتاج المعرفة وخلق الفن يتطلب ما قد يبدو أخلاقياً كشر، لكن لا بد منه. والأشياء لا توجد دون أضدادها.
 
كل عمل تجريدي.
 
  • التجريد، الألوان الطازجة... دائماً نحسها عندما يدفع نظرنا على لوحتك ؟!
كل عمل ذي بعدين، أي كل لوحة، يمتلك قيماً تجريدية تتحرك على سطح اللوحة، وفي آفاقها الأخرى، الأشكال الموجودة، وحتى أكثرها واقعية هو متكأ للنسيج التجريدي للعمل: وحدة الألوان، تناغمها، انسجامها، تناقضها، حركات ضربات الريشة، إيقاعاتها، دسامات المادة اللونية، شفافياتها. الخطوط التي تتبعها العين في مسارات مسحها للعمل، كل هذه تتفاعل تجريدياً بأهداف متنوعة، يترصدها الفنان وهو ينجز عمله. أما التجريد الخالص فخاضع لشروط تناوبتها التجارب الكثيرة: تجريد شعري وهندسي وعفوي ووحشي وغنائي... الخ حتى أصبح التجريد ميراثاً بصرياً واقعياً يستخدم اليوم في الإنتاج الصوري الالكتروني كما لو كنا نستخدم صور مدن أو أحياء من بلدان متنوعة.
أما طزاجة اللون والإصرار على ألقه، فهو نوع من الخيار الشخصي في تناول المادة اللونية، ومعالجتها ضمن علاقات تبادلية تمنحها قدرات ما، أنقل من خلالها أناي على سطح اللوحة، أنا نفسي أكثر مما أريده، اللون هنا يأخذ روح استقبال الضوء للمرة الأولى عندما نخرج من الرحم، أو في انبثاق الدم من بشرة، أو تفتق الأخضر من يباس غصن.
اللون هو إلقاء القصيدة بصوت الشاعر، حرارة المنطوق وهو يتقمص الزغردة والزقزقة، النشيج والحشرجة، إنه إعلان الأشكال والفضاءات التي تعطي للعمل جسده، إحياءً للحس وتسرّبه الدؤوب في غلالة اللون / الضوء.
حاوره: صالح دياب