Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


أحمد معلا . فنان يراوغ الموت، يضلّله، ويمحوه  

ولادة اللوحة حدثٌ، إضافةٌ، تغني الوجود وتُعلي من شأنه. ولادة تبدأ رحلة لا تنتهي، تخترق حدود الحساسيات والأذواق، تفرض نفسها على الصالات، تربك النقاد، وخاصة أولئك الذين يعتقدون أنهم يمتلكون تصوّراً حول كيف يجب أن يكون الفن، كيف يجب أن تكون اللوحة.

ذلك أن اللوحة تبزغ من الظلمة إلى النور من بؤرة خارج المُسبَقات، خارج هيمنة التأثيرات، من المعمل الداخلي الذي تشغّل آلاته جميع أعضاء الجسد بلا استثناء، الجسد غير القابل للفصل إلى أجزاء، غير القابل للتحنيط كأعضاء منفصلة، الجسد كبنية كليّة يتفاعل فيها الوجود ويشكلّ مفاعله، حيث الطاقة تتكثّف وتتشكّل وتخرج ولادة مدهشة. والفنان، في هذا السياق، يولد مع كل لوحة تُولد، بل لا يتوقف عن الولادة، لا يكتمل، يظلّ يولد، ولهذا يظلّ فناناً ـ طفلاً، يظل يلعب بالعالم كما لو أنه دميته، يظلّ "يمتطي قصبة الكون".

وإذا كان هذا الكلام يفي الفنان حقه، فإنه ينطبق على الفنان المسكون بهاجس البحث، والتجريب، الفنان الذي يؤكد على اختلافه، على لونه الخاص، أي لون إضافته، وفي هذا ما يذكّر بقول الشاعر الأميركي جون آشبري: "لوني أزرق". أي أنا كشاعر أكتبُ شعراً يكتسبُ أهميته في كونه يختلف عن كل ما سبقه، وكل ما يجايله.

 وينطبق هذا الكلام على الفنان السوري أحمد معلا، لأنه لا يتوقف عن الولادة من لوحة إلى أخرى، من مرحلة إلى مرحلة، هادماً أسواره، مخترقاً اكتشافاته نحو اكتشافات أخرى، كأنه في هذا يؤمن بما قاله بيكاسو: إن اللوحة هي نتاج عمليات الهدم المتواصلة، وكلّ من يسحره الاكتشاف الأول، أو الثاني، أو الثالث، لا يُعوّل عليه. ولكن هذا الهدم ليس من أجل البحث بقدر ما هو من أجل الاكتشاف، فالمكتشف، حتى لو كان لا يقصد اكتشاف ما اكتشفه، هو الذي يثير فضولنا وإعجابنا كما يذهب بيكاسو. والفنان هنا حين يمنح الشكل واللون هويتهما الفردية فهو يحافظ على متعة الاكتشاف، متعة اللامتوقَّع، يضيف بيكاسو.

أحمد معلا لا ينبهر، ولا يستسلم لأي بريق من أي نوع، ولهذا فإنه يشكّل حالة تفرّد ثقافية، وأقول ثقافية لأنني أعتبر أن الفن التشكيلي، مهما أُدخل في سياقات لتجريده من "معناه"، يظل طريقة للقول، والتفكيك والهدم، والاكتشاف، والبحث عن المعنى والخروج عليه، لا كما تفعل نصوص اللغة، وإنما بكونه، في كليّته، يشكّل المعنى والخروج عليه. وتتجلى فرادة أحمد معلا في كونه فناناً يأبى أن يقف عند الاكتشافات الأولى، أو أن تكبّله دهشة الاكتشاف، أو أن يبقى سجين مرحلة من مراحله، على الرغم من أنه يبقى أحياناً، في إحدى المراحل، لا كسجين، وإنما كي يمنح نفسه فسحة للتأمل، ولمزيد من الاتساع اللوني.

 إنه من أولئك الذين يتقنون فن الإصغاء، وفن النظر، وفن اللمس، وفن التذوق. ويجب ألا نغفل بقية الفنون الحسية، فاللون ليس للعين بقدر ما هو للأذن، وليس للأصابع بقدر ما هو للأنف، وهنا لا يمكن الفصل حين نتحدث عن اللوحة كنتاج للمخيلة الجبارة المغامرة التي تصهر العناصر كلها، وتتجاوزها في فعل الخلق.

حين ترى لوحات أحمد معلا تشعر بنوع من الرهبة، قد تكون رهبة دينية، تشعر كأنك داحل معبد، وهذه المشاعر المتولدة عن الفن لم يغفلها النقاد، وخاصة أوكتافيو باث، الذي قال في مقال له بعنوان: الرؤية والفائدة: الفن والحِرَفانيّة: "إن الفن ورث من الأديان القديمة القدرة على إضفاء القداسة على الأشياء، ومنحها نوعاً من الأبدية؛ فالمتاحف هي معابدنا، والأشياء المعروضة فيها هي متجاوزة للتاريخ. ونحن ننظر إلى العمل الفني كما كان ينظر الإنسان المتدين بخشوع إلى السماء المرصعة بالنجوم. إلا أن الأعمال الفنية ليست أشياء جميلة أو قبيحة، وإنما كيانات فكرية وعاقلة  ووقائع روحية، أشكال تتجلى فيها الأفكار". (أوكتافيو باث: من "الفن والفائدة"، كتاب نقاط الالتقاء).

قال أوكتافيو باث عن لوحات جاكسون بولوك إنها لا "تقدم معنى"، بل "توجد فحسب"، وبالتالي، "ففي الأعمال الفنية الحديثة، يتبدّد المعنى في تألّق الوجود. يتحول فعل الرؤية إلى عملية فكرية هي أيضاً طقس سحري: فأن ترى هو أن تفهم، وأن تفهم هو أن تتواصل على مستوى أكثر عمقاً".

يكتب أحمد معلا النص المتفرد، أي أنه شاعر وروائي ومسرحي وسينمائي ومفكر يخط مغامراته واكتشافاته والمجاهيل التي تتبدى في أسفاره اللونية التي تتعدد في أبعادها وأحجامها، وصولاً إلى اللوحة المفتوحة، أو اللوحة التي تخلق فضاء التجاور والتعدد. فجدراياته ليست مرآة، بل شبكة تصطاد حركية العالم التي تختلط فيها المأساة بالملهاة، الحزن بالفرح، الجسدي بالروحي، الانحطاط بالازدهار، في فسيفساء تناقض متناغمة، كما لو أن الأصابع تبتكر سيمفونية موسيقية على الآلات بأنواعها.

وحين أقول إن أحمد معلا شاعر وروائي ومسرحي وسينمائي، أعني أنه، على المستوى الفني العميق، لا يقتنع بالأشكال السائدة للتصوير وللكتابة، ولطرق التعبير السائدة، في الكتابة والشعر والتصوير التى تخشى التجريب، وتتجنب المغامرة، وتقف عند حدود التشابه، وهو في هذا، كفنان تجريبي، يحرض على ممارسة أقصى أبعاد التجريب والاكتشاف، والانتقال عبر المراحل، عبر صناعة فضاء من الكواكب الإبداعية، كل كوكب عالم فني مستقل، ولكنه يكتسب أهميته من تموضعه في الفضاء الأوسع للروح الفنية القلقة المتوثبة التي لا مرافئ ولا محطات ولا مطارات لإبحارها وسيرها وطيرانها. إن أحمد معلا في ما ينجزه يولِّد القلق لدى الرسّام والكاتب، ويدفعهما إلى الزهد بمنجزهما، إلى الخروج من سجونهما الصغيرة نحو آفاق التعبير الأوسع، كي ينخرطا في فعل المقاومة، الذي، كما قال، لا تقوم به إلا قلة قليلة جداً، في وجه أشكال الطغيان كافة في عصر التفكك والانحطاط وموت القيم.
إن تأمل لوحة أحمد معلا يولّد الاستفزاز بقدر ما يولّد الأسئلة، فلوحاته المتنوعة، التي تتسلسل من الأحجام الصغيرة إلى الجداريات الضخمة، تتجاوز فعل المسرحة، والتأثيرات السينمائية، وتبتعد عن لغة التشكيل السائدة، وهي فيما تمزج هذه العناصر كلها تحولها إلى هوامش وفواصل في مسيرة الإنسان الكبرى نحو المجهول، الذي لا يمكن أن يصل إليه فرد بعينه، المجهول الذي يقول بعض العلماء إنه لا يمكن إلا للتجربة الجماعية أن تصل إليه، المجهول الذي يقول بعض الشعراء إنه لا يمكن الوصول إليه وإلا لفقد وجود الإنسان أسمى معانيه.
تتميّز مراحل أحمد معلا بالقطيعة في ما بينها، وما يصلها هو خيط التجريب والبحث المتواصلين، تطويع اللون وترويضه، تحويله إلى أبجدية تؤلف الأشخاص وتحيلهم إلى أشكال بإيحاءات لا تنتهي، في قراءة لا تنتهي، ستظل متواصلة حتى آخر لوحة يرسمها الفنان.

إن إنجاز أحمد معلا الفني يولّد فينا السعادة القصوى والحزن الشديد: السعادة التي تولد فينا حين نرى فناناً سورياً أوصله إبداعه إلى مصاف الفنانين الأوائل في العالم، والحزن الذي يتآكلنا حين نرى أن اللوحات الكبرى تهاجر من أوطانها نحو متاحف أخرى، كمثل النهاية المحزنة لمعرضه التكريمي الخاص بسعد الله ونوس. ولكن ربما كان قدر اللوحة أن تهاجر من ثقافة إلى أخرى، أن تسهم أيضاً في نزع الحدود بين الثقافات المغلقة وفتحها على الكونيّ.

تتميز تجربة أحمد معلا، كتجربة مفصلية في الفن العربي المعاصر، بأنها ليست صدى للمدارس وللتأثيرات الغربية، وإنما هي تجربة نابعة من صميم الثقافة المحلية، ومن صميم ألوانها، عبر قراءة عميقة ودؤوبة للتجربة العالمية تتجلى في اللوحة، التي لا تكتسب أهميتها مما فيها، بل من نفسها. فهي ليست وعاء، وإنما هي موجة مندفعة نحو المجاهيل، وسطح بحر متموج بالاحتمالات والإيحاءات.

في معرضه الأخير في الآرت هاوس، لا يسع المرء إلا أن يقف مذهولاً أمام هذه الطاقة الفنية، والتي تتدفق أشكال لوحاتها من موروثنا، فالأشكال التي أُخرجت من اللاوعي الجمعي، من الآبار الناشفة والصحارى القديمة، من اللغة المنقرضة، ومن السلالات البائدة، تبدو في تجمعاتها وكأنها مصدومة، تبحث عن حل، تتلمّس مساراً، فيما إيحاء القلق يخيّم على الأشكال، والتي هي نحن على مسرح الفجيعة، والانسداد التاريخي.
توحِّد لوحة معلا بين الجمال الفني وإمكانية القراءة المعرفية العميقة، ذلك أن لوحته تثير أسئلة أكثر مما تقدم أجوبة، أو كما قال أحد الشعراء: إنها جواب يتساءل، وبالتالي لا يقين إلا الكشف، ولا محطة للراحة على طريق الكشف.
بكتفيه المنحنيين، كــأنهما يحملان جبلاً من الهموم، يسير أحمد معلا على طريق المغامرة والكشف، غير راض بما أنجزه، كأنه لا يزال يحلم بلوحته، كأنما هو طفل دائم الولادة، وهذا يذكرني بقصيدة للشاعر كافافي يتحدث فيها عن السفر إلى إيثاكا قائلاً:
 "حين تبدأ رحلتك إلى إيثاكا، صلِّ كي يكون الطريق طويلاً، مليئاً بالمغامرة والمعرفة... ضع إيثاكا دوماً في ذهنك، فالوصول إليها هو هدفك النهائي، ولكن لا تستعجل ذلك أبداً. من الأفضل أن تجعل الرحلة متواصلة بلا توقف، فإيثاكا لا أهمية لها في ذاتها، أهميتها أنها منحتك الطريق، والرحلة الجميلة".

إن هذه القصيدة المضمّنة في أعمال كافافي الكاملة الصادرة باللغة الإنكليزية، والتي تحمل عنوان "إيثاكا" ساعدتني على مقاربة أحمد معلا، الذي تتولّد لوحاته المغايرة من رحلته الجميلة، من إصراره على البقاء مترحلاً، بحثاً عن طرائد الصور والمشاهد، غوصاً في لغة المادة وعتماتها، رافضاً الوصول إلى أية محطة، فالمحطة هي إيثاكا التي "لا تملك شيئاً آخر تمنحه لك"، المحطة هي موت على الطريق، ولكننا هنا أمام فنان يراوغ الموت، يضلّله، ويمحوه، ويدفع به دوماً إلى الهوامش، ويأسره في ظلماته، محافظاً على قوة الحياة في الضوء واللون، في الفضاء الذي يواصل إبداعه، على طريق رحلته المتواصلة.