Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


معرض أحمد معلاّ في «غاليري مارك هاشم» حشـود وألـوان فـي عيـن العاصفـة  

يكتسب معرض الفنان السوري أحمد معلاّ أهميته بالنسبة إلينا، كونه المعرض الشخصي الأول الذي يقيمه في بيروت فنان له تجربة بارزة على مستوى التشكيل العربي، وله تجربته اللافتة، لجهة تفردها وتميّزها بين تجارب زملائه. وقد اتخذ من الواقع العربي والإنساني موضوعاً للوحته، بل جعل لوحته أشبه بعمل ملحمي يختصر به التاريخ أكثر مما يشير إلى واقع بعينه أو زمن محدد، بعيداً عن أي خطابية أو هدير لوني تحت عنوان الالتزام.
يبقى مشهد الحشود البشرية طاغياً في معرض أحمد معلاّ، وإن اتسعت اللوحات لتجربة أخرى يبحث فيها الفنان عن حظه من الموجة الحروفية التي اجتاحت فنانين عربــا كثراً، ولم تتحول بالتالي إلى مشروع هوية فنــية عربية. فالمعرض الذي يقام في غاليري مــارك هاشم (وسط بيروت)، لغاية 5 نيسان المقبل، ضم 23 عملاً مشغولاً بمادة الأكريليك، (ما عدا عملا نحتيا واحدا)، بأحجام مختلفة تكسر التــكرار الهندسي الذي نراه في بعــض المعارض، وتتــعامل مع العين بحضور أكثــر للحركة الناتجة عن هاجس التنويع.
أمواج الحشود
وإذا اختلفت أعمال المعرض بين لوحات الحشد البشري واللوحات الحروفية، فإن الحركة، التي يقدمها الفنان، بكل ذاك الشغف والتوهج، توحّد الأعمال، والعواصف نفسها التي تهب على شخوص اللوحات تهب أيضاً على الأحرف العربية التي تتلوى بدورها مع انفعالات ريشة معلاّ وأهوائه ونزقه البارز في الأعمال. ذلك النزق الذي يصل إلى التعبير عن وحشية العالم الذي يصوره مرة بوحشية لونية، وإلى اللعب الحر واللهو بتلقائية طفولية مرة أخرى، على أن اللهو يظهر أكثر ما يظهر في الحروفية التي يدرّجها الفنان من التزيين البصري في مساحة لونية ترقص أمام العين، إلى تحويل الكلمات أو الحروف إلى شخوص تتمايل وتتحرك على سطح اللوحة أو في عمقها. هكذا نرى الفنان لا يهدأ، كأنما يركض من أقصى الحكمة إلى أقصى اللعب الهائم أو أقصى الجنون. وهو بهذا يوسع خياراته من داخل التجربة نفسها.
نحن إذاً أمام أسلوب اتبعه أحمد معلاّ في أكثر من معرض، يحوّل فيه اللوحة إلى مسرح، والناس إلى ممثلين يعبّرون فيه عن أنفسهم ومعاناتهم وطبيعتهم، هذا المسرح الذي لم يقتصر الحضور فيه على البشر، بل ضم في لوحات كثيرة سابقة الكثير من الحيوانات التي جعلها تقف أمام الناس كأنها تقف على منبر، أو تنبح في الحشود كأنها تأمر وتنهي. إنها المعاناة المؤلمة التي تحملها وجوه الناس، المعاناة التي توحد الوجوه وحركة الأجساد من دون أن تتحول إلى حركة تكرارية مبسطة. ذلك أن الفنان يقدم أمواجاً من البشر من دون أن يكون المكان محدداً، ومن دون أن يوحدهم زمان، هم يأتون من اتجاهات مختلفة، وربما من أكوان مختلفة، حتى إن أمواج حركتهم تتبدل في اللوحة الواحدة. ينفرد بعضهم ويتزاوج بعضهم الثاني ويتحاشد بعضهم الثالث... فالمساحة الواحدة تشكل ذلك المسرح الذي يحمل في أقسامه شرائح ونماذج من البشر، الذين تجمعهم حياة تراجيدية قاسية، مسكونة بالقلق والاضطراب.
كابوسية
لا يكتفي الفنان إذاً بعدم تحديد الزمان، والمكان، والجهة التي تأتي منها الحركة، بل هو يمحو أيضاً ملامح الناس، ليدخل أكثر في لغة الاختصار، وفي تكثيف الذاكرة التي يستحضرها، كون اللوحة عنده ليست مجرد معاينة واقع بعينه، بل معاينة تاريخ، وليست معاينة شريحة، بل معاينة مجتمع، وليست بالتالي اقتصاراً على فن تشكيلي صافٍ، بل استحضار لفنون أخرى، إذ نجد أنفسنا أمام مسرح وحركة مسرحية، أو أمام مشاهد سينمائية مصفوفة فوق بعضها أو أمام متواليات متسلسلة بل متناسلة من بعضها، أو حتى لكأننا أمام اقتراح سينوغرافيا، أو أمام آلية سرد حكائي. فالأفكار المركبة على مستوى الواقــع هـــي أيضاً مركبة على المستوى الفني. ومع الواقع تتداخل الأحــلام السوريالية والكابوسية، وتتحول أرض المسرح إلى شرفات متراكبة، أو جدران يقف عليها الممثلون، أو سماء فسيحة تسبح فيها الأجساد. أو حجرات متعددة لحالات تعبيرية متقاربة.
المهم أن معلاّ يفلت دائماً من أي إطار نحاول أن نضعه فيه، فإذا شاهدنا تقسيمه الهندسي لمساحة اللوحة بين مستطيلات ومربعات مثلاً، وجدناه في الوقت الذي يؤسس فيه لهذه الهندسية يعمد دائماً إلى كسرها واختراقها بما هو غير هندسي، وكذلك لو راقبنا الحركة التي يصوغها في مساحة اللوحة، لوجدناه يحرك الحشود مرة على شكل طبقات متوالية عمودياً وأفقياً، ومرة ثانية على شكل مثلث، ومرة ثالثة على شكل لولبي، وهكذا... كأنه يعمد دائماً إلى هزّ نمطية اللوحة، وهزّ عقلنتها ورصانتها وهدوئها واستقرارها. يوقف شخوصه على أرض، أو يحولهم إلى ما يشبه الأيقونات المعلقة على واجهة كنيسة، أو يجعلهم على مداخل أقبية. هذا الهز أو الخلخلة الدائمة لأي نظام في اللوحة تلحق أيضاً أبعادها، فالفنان يصوّر شخوصه فوق سطح يقدم بعدين للشكل، لكن لا مانع لديه من أن يحوّل البعدين في جزء من اللوحة إلى ثلاثة.
إلا أن ذلك الكسر المتنامي الذي يتحول إلى هاجس لدى الفنان، لا يحوّل اللوحة إلى مساحة للتجريب الفالت من أي أفكار مسبقة، أو التجريب المتمادي مع مزاج متقلب، أو التجريب الذي يبحث عن غرائبية بأي ثمن، بل يجعل اللوحة مسرحاً لا يستطيع الممثل أن يكرر فيه نفسه أمام المشاهد، ولا أن يقدم إيقاعاً واحداً من شأنه أن يشتت انتباه العين، ولا أن يعتمد حركة تتحول إلى مفردة يتركب منها كل مشهد. هكذا يتعامل أحمد معلا مع لوحته. هكذا يرفض نفسه ويتمرد عليها بشعرية عالية.
حتى اللوحات الحروفية يقدمها كتطور وحركة تغيير في لوحته، فلا يبدو كأنما قفز من موضوع تشكيلي إلى آخر غريب عنه، أو من مفردة لونية إلى مفردة كتابية، فهو يستخدم الخطوط في كثير من لوحاته، على أنها تساهم في بلورة صيغ حركية، يلوي معها أجساد شخوصه، ويختصر بها صيغه التعبيرية، وهو استخدم الحرف العربي خلفية لبعض لوحاته السابقة ولوحات موجودة في معرضه البيروتي، الذي يضم عموماً أعمالاً جديدة، وتعامل مع المساحة التي تضمها تماماً مثلما تعامل مع شخوص اللوحات، فوزّعها على متواليات هندسية عمل على كسرها مراراً. بل هو، أكثر من ذلك، دَمَجَ الحروف والشخوص، أو حوّل الشخوص إلى حـــروف، إذ هـــو انتقل، على الأرجح، من الرسم وخطوطية الأجساد إلى التقرب من خطوطية الحرف، لا العكس.
لا أظن أن الفنان معلاّ أراد من انحرافه في اتجاه الحروفية أن يؤكد انتماءه إلى مدرسة، أو أراد البحث عن هوية عربية أو شرقية، ذلك أنه لم يفعل ذلك في تجاربه السابقة، وأننا إذا أخذنا السياق العام لآلية التغيير التي اتبعها ويتبعها للإفلات من أي تكرار أو أي استقرار، ننتبه إلى أن الحروفية هنا ليست إلا شكلاً من أشكال التغيير وممارسة الحرية.
لا شك في أن الفرق بين مساحة اللوحة الحروفية ولوحة الحشود كبير، رغم كل الجسور الممتدة بين الصنفين، فالأولى تميل إلى التبسيط الذي لا يعقّد دخول العين، بل يعمل على تقديم صيغة بصرية عائمة على السطح، في حين رأينا في الثانية مساحة أكثر تركيباً وتعقيداً، في الكثير من اللعب بالأبعاد وحركة الأجساد وشعرية المشهد. ولا شك بالتالي في القول إن لوحة الشخوص التي جعلها الفنان تتسع للكثير من الابتكارات الممتعة، بدت أغنى بكثير من التجربة الحروفية، وإن كانت الحِرَفية التي يتمتع بها الفنان تجعله ينقّل المتعة إلى حيث تضرب ريشته.