يحكى أن ملكاً طلب من وزيره رأيه بأحدهم، فأجاب الوزير أتريد أن نمدحه يا مولاي أم نذمه .
فكل حياة أو تجربة تحتمل المقاربة من موقع أو آخر، بحسب الضوء الذي نسلطه عليها.
ولعل في التجارب الفيزيائية الضوئية ما يكشف لنا عن قيمة هذه الطريقة، فإذا سلّطنا ضوءاَ أحمر على لوحة أو صورة رأينا الأخضر يتحول إلى غامق شبه أسود عميق وحاد، بينما انتقل الأصفر إلى البرتقالي وتحول الأزرق أن ملكاً طلب إلى البنفسجي واختفى الأحمر والزهري والبرتقالي في موجة ضوئية.
من هنا يشعر المرء أن الإقدام على إقامة معرض لرصد ما هو فني أو تشكيلي منذ بداية القرن العشرين إلى ستيناته هو مأثرة تحتاج إلى خبرات وإمكانات وطاقات وقدرات كبيرة وكثيرة تعمل ضمن مشروع يهدف إلى رصد كل ما هو جمالي فني تأليفي تركيبي تحليلي وتشكيلي، وإعادة تنظيمه وبرمجته ودراسته، بهدف الاستفادة من وجوده السلبي أو الإيجابي، ورصد القيمة والمعيار الذي يثيره أو يؤكده ضمن المطياف البصري وارتداداته المرجعية أو المستقبلية.
أما والأمر يتعلق بهذا المعرض:
فأنت عندما تقرأ العنوان الكلي الكبير (إحياءالذاكرةالتشكيليةفيسورية) تراك محمولا َ على مدار هو من الاتساع والعمق بحيث تحتاج إلى مؤسسات كبرى لتغطية جوانبه كلها، مدارٌ واعد لما يمتلك من رقاقات شفافة تتراكم فوق بعضها البعض وصولا ً إلى جسم فيه من الغموض وصعوبة الغوص ما يجعلك تتمنى لو أن هناك القدرة على إعادة فك هذه الشرائح والرقاقات وعرضها.
لكن الأمر ليس كذلك، إذ أن العنوان الثاني يضيق الرؤيا ويحدد نطاق العمل، بل ويلملم الاتساع، ويؤطر الفعل ويصغّر الزعم من خلال إعلانه أن الأمر يتعلق فقط بـ « مختاراتمنمجموعةالمتحفالوطنيفيدمشق » ، وباحترام كبير لا يلبث أن يبدد أية شهية للوغول عبر الزمن من خلال إعلان لعنوان ثالث (منالبداياتحتىستيناتالقرنالعشرين)،
وكي لا تكون دعوتي للمحاضرة كدعوة اللئام على موائد الكرام أسارع إلى شكر القائمين على هذا المعرض للجهد الذي بذلوه والعناء الذي تكبدوه جراء الغوص في مقتنيات المتحف من الفن الحديث وإخراجه إلى دائرة الضوء.
المعرض نبش للذاكرة الرسمية إذاً أو ذاكرة لجان التحكيم التي توالت على التنطع للدور الصعب في تحقيق معايير علينا تخيلها في كل مرة وإلى اليوم، إذ ليس من إطار نظري، أو نصٍٍ رافق التحكيم للإطلال على كيفية الانتقاء واعتماد الإقتناء.
ولا أحمّل هذا أو ذاك للقائمين على المعرض وإنما أعرضه عسى يكون للرأي هنا ما يمكنّنا من تناول المستقبل الذي سيتحول تاريخا ـــ لابد ـــ بشكل مغاير لما جرت العادة عليه.
على كل حال، لايخفى على أحد أن ثمة فراغ بين بداية القرن والخمسينات أو لنقل بين داوودالقرموتوفيقطارق وبين أول معرض خريف أقيم في الخمسينات.
ولا يخفى أيضا أن الأمر يتعلق بنهاية السلطة العثمانية والانتداب الفرنسي.
ولعل معرض الخريف الأول الذي أقيم في العام 1950 هو الشكل الأكثر نضوجا، ووضوحا، للإشارة إلى النشاط التشكيلي الحديث بكل معنى الكلمة.
« حين نالت سورية استقلالها، وأخذ أبناؤها يتلمسون معالم الطريق، نحو الحياة المعاصرة، بما فيها من مظاهر حضارية تتمثل بشتى فنون المعرفة والفكر، ظهر فنانون من أمثال رولانخوري وطالبيازجيولؤيكياليوفاتحالمدرس، ذاك الجيل الذي دأب في البحث عن نفسه في غمرة الفكر والثقافة الغربية والمحلية.
وكان التخبط الفكري يمثل أعلى درجات الاستقلال الذاتي إذ ذاك، وكان الانتماء إلى الفن الغربي مشروعا للوصول إلى شيء من تحقيق الذات.» طاهرالبني: الفنانالراحلرولانخوري 1930-1988 الحياةاللتشكيلية 57/58.
هذه الشهادة لطاهر البني مبنية على كلمة تأبينية ألقاها وليدإخلاصي في العام 1988 في رحيل الفنان رولانخوري وهي تشكل مرتكزا للإشارة إلى مجموعة من القضايا تكاد تكثف الشاغل الداخلي الرئيس للذوات المبدعة أوالعاملة في الحقل الفني والإبداعي في تلك المرحلة :
تلمس الطريق نحو الحياة المعاصرة.
ظهور المواهب والأسماء.
الدأب بحثا عن الذات
سيطرة الفكر والثقافة الغربية والانتماء إليها
محاولة التعرف على الثقافة المحلية أو العمل على تحقيقها
التخبط الفكري
حمل الفرنسيون معهم من أدوات الحياة الحديثة وأنماطها وأشكالها وحضوراتها في كل المجالات، ما أثار شهية الكثيرين ممن امتلكوا المواهب والقدرات للحاق بالركب الحضاري.
وشكل ذلك فرصة للإقدام على أنواع العلوم والفنون والأداب المختلفة، ما عمل على قلب الحياة التقليدية من كل جوانبها، وشكل هذا الاكتشاف - لمدى تطور الآخر ومدى لحاقنا به - معيارا تتجاذبه البنى الاجتماعية منذ وصول نابليون بونابرت إلى مصر وحتى اليوم، وأخذ هذا الوعي بقيمة التطور ومعنى الحضارة على المستوى الذاتي أشكالا بنيت في أغلبها على مدى قدرة كل منها على المشاركة في الحياة المعاصرة، وتناول أدواتها، وانتاج مشاركة فيها.
ولهذا فإن المراحل الأولى وصولا إلى الستينات بقيت رهينة المجاراة مع الغرب في محاولة لامتحان الإمكانات الذاتية، من خلال تحقيق ما يماثل الانتاج الغربي الذي تم سبقنا إليه.
ففي استعادة الانطباعية خلال الأربعينات على يد فنانين مثل كرشة، كانت اللحظة تقتضي العمل على ما يمكن تأمينه من مواضيع محلية. من رصد لأماكن جميلة يعاد تصويرها انطباعيا على ضوء المفاهيم التي كانت قد غدت تاريخا بالنسبة لأربعينات أوروبا. إلا أنها شكلت تحديا بالنسبة لتلك المواهب التي غادرت مراسمها إلى الأحياء والبساتين وأطراف النهر في محاولة لإنجاز عمل انطباعي يتطابق والمقاييس والمفاهيم الأصلية المستوردة.
هذا التحدي ـــ للإنصاف ـــ كان له بعد آخر تمثل بتحدي نظرات الاستغراب، وروح التهكم من المجنون الذي يحاول رصد الضوء واللون في هذه البقعة أو تلك. وهو أيضا مقياس لمدى التعاطف الذي يمكن أن يحققه هذا الوجود الغريب بين الأشجار أو على أطراف الأزقة.
استساغة الفعل، وتبنيه والإعجاب بمنتجه، لم تكن جزءاً من الروح المحلية، وقد تطلّب الأمر كمّاً من النضال والتضحيات، يجب علينا الاعتراف للرواد بها والإشادة بما مثلته من قيمة، نجني ثمارها اليوم.
لقد هيأ هؤلاء القاعدة لنشاط تشكيلي محلي، وقد بذل أغلبهم حياته لدراسة الفن وتدريسه ورعى مواهب أخرى ودفعها إلى المضمار التشكيلي وفي أحيان أخرى ـــ صارع ـــ فنانين آخرين، أو اتجاهات أخرى بين محاولة لتأكيد الذات أو الموهبة، أو وجهة النظر.
ولم تكن السبل سهلة، فالغربي يتهمه بأن بضاعته ردت إليه والمحلي نافر من غرابة ما جلبه من الغرب.
وبين هذا وذاك كان عليه العمل لتحقيق حضوره الحضاري الثقافي، السياسي والاجتماعي من خلال تمكنه الحرفي والدراسي، وصولا إلى تأثيره الثقافي في الميادين والأوساط التي يجد نفسه فيها مركزا للتناول المتنوع.
اللوحة والصورة، شكلت جزءا من التطور الحضاري في الغرب منتقلة من الكنيسة إلى قصور الأمراء، فالإقطاعيين فالبرجوازيين، وصولا إلى المتاحف والصالات ووسائل الاتصال، مدعومة خلال القرن العشرين بكم من الكتب والمجلات والمقالات.
أما اللوحة والصورة عندنا فهي تكاد تكون يتيمة لولا رعاية مديرية الآثار العامة ومن ثم مديرية الفنون خلال تلك المرحلة /على ما في ذلك من عسف/.
وفي دراسة بمجلة الحياة التشكيلية ( العدد الثاني السنة الأولى ) يقول كاتب المقال المغفل الاسم: « وفي الحقيقة، إن محاولات التحرر من الأسلوب التقليدي موجودة منذ قترة الاستقلال الأولى. ولكنها لم تستطع أن تسيطر، أو تلعب دوراً هاماً لأنها كانت غير قادرة على التصدي للتيارات التقليدية التي بسطت نفوذها، والتي لقيت الدعم والتأييد من الهيئات والفئات المثقفة، ومن الطبقة الحاكمة في تلك المرحلة التي تلت الجلاء، ولكن التغييرات السياسية التي تلت عام 1956 قد جعلت المناخ ملائماً لحركة فنية جديدة لها أساليبها المتميزة الحديثة، ورؤيتها الفنية التي تتوافق مع المد الثوري الجديد الذي تصاعد في تلك المرحلة ». لقد تأثر الأخواناسماعيل- أدهمونعيم ـــ بسلب لواء اسكندرون مما جعل الهم الوطني والانتماء القومي باكراً، وازعاً لاعتماد أشكال من التعبير التشكيلي، عملوا على استلهامه من الدلالات البصرية المحلية والعربية، وتعتبر مجلة الحياة التشكيلية ( نفس العدد )، أن لوحة (الحمّال) التي رسمها في عام 1951 أدهماسماعيل تمثل أول عمل فني متطور في حركة الفن التشكيلي المعاصر في سورية لأنها اللوحة المتمردة على التيارات التقليدية التي عرفناها ومثلت إرادة التغيير في تلك المرحلة. أما فاتح المدرس فقد كان يتخبط بروحه ومفاهيمه محاولاً التمرد على التقاليد قبل سفره إلى روما بين السريالية والتعبيرية، بين العمل على الأداة أو سطح العمل أو التقنيات، بين الأناقة والنزق في خضم روح دفاقة لم تتأكد إلا لاحقاً بعد عودته إلى الدراسة في روما.
لقد شكلت الخمسينات النواة الحقيقة للمحترف الذي سيشكل خلال الستينات صورة التشكيل السوري الأولى بكل ما للكلمة من معنى، حيث ستتنازع الأعمال تفجرات نوعية، ذاتية وعامة، تدفع الفنانين إلى البحث عن أساليبهم الشخصية التي ستسم أعمالهم وتتحول إلى توقيع بحد ذاتها. في محاولة لتكريس الاحترافية، وتنويع المصادر الاستلهامية، والبحث عن صيغ جديدة في آفاق راحت تتسع أمامهم لكل منهم ما يشاء من مدى، لتحقيق موهبته وتكريس حضوره.
إلا أن الصيغة التي ظلت تتمثل القيمة المحلية هي ذاك الإصرار على امتلاك الفنان لأدواته وأكاديمية قدراته كشرط للاعتراف بموهبته وقدراته، انطباعياً، واقعياً، تعبيرياً، سيريالياً تكعيبياً أوتجريدياً، من أيّهم كنت فالمساحة متاحة لك، لكن عليك أن تكون قادراً على المشاركة في مسابقة ناظم الجعفري الشهيرة، ولهذا فإن الأسماء الأكثر لمعاناً في هذال المجال ماتزال تبرق في الذاكرة، أدهماسماعيل،لؤيكيالي،فاتحالمدرس،نصيرشورى،محمودحماد،الياسالزيات، والغائب الأكبر عن هذا المعرض نذيرنبعة.
|