Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


الضوء ميزان اللون، وروح الحلم والهواء نيران الجحيم، ودم المذابح والولادات  

 

الفنان أحمد معلا.. معرضه في المركز الثقافي الفرنسي- دمشق
 
لا يسع مشاهد معرض الفنان أحمد معلا، في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، إلا أن يكتشف بقليل من الدهشة أو كثيرها، كم ملوناته غنية، أكثر من ألوان قوس قزح بعد امتزاجها وكم روحه مشتعلة وثابة. غامرة القلق والتوتر، وكم يده عصبية قوية، جامحة وتكتسح الحدود والسدود، كما نرى أيضاً تلك العين الحية التي تغمض على رؤيا دموية عارمة، تتصاعد من أعماق الأرض لتطاول عنان السماء، وتنبعث من جمر الروح إلى عراء الجسد، كي تخضبه بألوان الفجيعة الفادحة، والدراما المتكاثفة، والتراجيديا التي تنظم الكون، في كوكب الأرض، وربما في الفضاء.
إن الخطاب التشكيلي الذي يقترفه الفنان، ملتهب وكأنه في سعير حار، أو أن جهنم الحمراء تتطوى في أعماقه، وفي فضاء اللوحة، وما من دلالة سوى على التموج الضوئي الباهر سوى على النار، وهي تتغير وتتبدل كل حين. كما أنها تذهب إلى المشاهد، بكثير من الضراوة والسخونة اللتين يعتمدهما في تنضيده، وترصيعه للون الخام، حين يصل اللوحة متحولاً، نائياً وبعيداً عن خصائصه الأولى، وكأنما يكشطه ويقشره عن لحم روحه. وينفح فيه من سمومه، وينفث فيه من نيرانه الداخلية، التي هي في اتقاد دائم، لا تستطيع لوحة، ولا مجموعة لوحات من إخماد سعيرها الذي يستفز اليحموم المتغاوي، يتدفق فيه، وينقذف إلى أقصى وحول اللون والرماد...
هكذا ترى العين نفسها محدقة، مبحلقة، أو تضيق فتحتها، كي تستقرئ النص البصري المنعقد على همومه الخاصة، وعلى تجريبيته الحديثة، وعلى تقطيع واقتطاع مشاهد من مرايا الروح، ومما يتمرأى أو يترأى فيها، وفيها لا يترأى سوى ما يعمد الفنان إلى التخارج معه، والتساكن فيه داخل اللوحة، سواء جاء ذلك من داخل أو خارج. سيكون الفرق ضئيلاً، حيث لا وقت للتمييز، طبعاً للجاجة والجموح والصهيل، الذي يوقظه في أعماق حركة اللون، من خلال ضربات فرشاة، تعرف طريقها ومستقرها. كما تعرف كيف تقف وتتابع رقصها المحموم، وتعرف كيف تجاور وكيف تتاخم، وكيف تقترب أو تبتعد، إلا أنها تعرف أيضاً كيف تحصد الضوء من اللون، ومن لون آخر، وتراكم الأضواء والألوان’ حيث تصير العجينة مختمرة ناضجة، مطبوخة، طازجة، على نيران المشاعر والأحاسيس والرؤى، أو طالعة من أفران الحلم والتخييل تياهة، متماهية، تدرك، وتدّارك ارتجافها الرهيف هنا وهناك.
إن اللوحات التي هي زلازل وبراكين في آن واحد، لا بد من تقصي دلالات العيش فيها، وجنون الرغبة في الحياة، كما لا بد من التماس الوجه الآخر وجه الشهوة وهي تحتدم كمن تضيق بحضورها الغلاب، فتلجأ إلى النسيان، نسيان ننفسها وهدفها واتجاهها وربما لجأت إلى المحو والغياب، خاصة وهي ترقص رقصة الدم والموت، وتتماوج في إيقاعها الداخلي، عبر التشكيل، وكأنها تتدحرج غير عابئة بأية عقبات، ولا بأية معايير ومقاييس تقف حائلاً دون تحققها في سديم اللوحة، دون انتفاخها وانفجارها، دون انفساخها على المساحة كلها، دون استيطانها في أعراق وشرايين الألوان، ودون احتلالها أرضية اللوحة وفضائها ونفي الحدود بينهما، إنها ترتكز إلى الألق، وترتكن إليه، لا لتهدأ وتطمئن، بل لتتابع تخزيف اللون، وتوريقه. كما لتتابع جراحته المثلى، وبعث الرعاف والنزيف والفوران والغضب فيه. هكذا يحتمل الفنان اجتياح الجنون اللوني. كأنما لعدم احتماله هذه الرؤية التشكيلية الباذخة. ينقل ذلك بصخب كلي إلى اللوحة، كأنما ليجعلها تقول كل شيء، فيما ليس فيها سوى مرمى البصر، وخرافة الأبصار، ولأنه يتشكل كأسطورة فهو يخفي الرواية والأخبار عنها أو يزيحها جانباً، ويدفع طاقته الحية إلى عراء اللوحة، لتستطيع القول أن اللوحة والفنان في إتحاد شبقي وعرفاني، ولا يمكن الفصل بينهما، دون سماع التخزيف والتمزيق، والنشيش الكاوي للحمهما النيئ العاري.
ومن حركة البرشور إلى الملصق، إلى المعرض. لا يجيء الفنان من واقع ما، ولا من مدرسة فنية معينة، كما لا يتجه إلى أي اتجاه، ولأنه يجرب، فكأنه يسعى إلى تأسيس نفسه، ومراكمة تجربته طبقة فوق طبقة، وهو في ذلك يسعى إلى ترسيخ أعماقه، وموائمة نصه التشكيلي، ومواكبة حداثته التي تضمر أبعاداً فنية جميلة، متفارقة في قيعانه كما تضمر أفكاراً جمالية، شديدة الكثافة والتخفي، وربما شديدة الغموض في أحشائه، لكنها في اللوحات، تصدر أصواتها وأصداءها، كما تبوح بشؤونها وشجونها، من باب التجليات والظهورات التي تتبارى في انعكاسها على طبوغرافيا اللوحات، كما تتماثل في محمولها، وتعمد إلى الفرار، إلى التفور والذهاب في العتمة للوصول إلى جيولوجيا الأعماق، مع المرور في الرسوبيات، وتربة الموتى، والمقابر، والأخافير، والمستحاثات، كما تنفذ عبر صمم الحجار، وعبر الفتنة المعقودة في غسق مضطرم، كما في ليل ديجوري، نوراني، أزرق أو كحيل.
إن الفنان في ضراوة، ومرارة ارتكانه للواقع، يتخارج منه، ويتداخل فيه، بنوع من التناسخ والتقمص، اللذين تعلق شبهاتهما في الذاكرة فقط، ولا إقترانات. ولا تشابهات، ولا حيثيات يمكن ارتجاعها هنا، سوى أن التمحيص يرود بنا، إلى سماع نأمات الترجيع لهذه الشبهات، وأن اقتباس النار ومقابساتها، يؤولان بنا إلى رغد الأسطورة وحجيمها، كما حين يحاول الفنان بإبداعه، نسج حلمه الخاص، ورؤاه المتمايزة، وأسطورته المبرمة التي يشيدها في حياته ولوحته، غير عابئ بشيء إنه لا يعزف في ألوانه سوى على أوتار روحه التواقة إلى الإنعتاق، ولا يقتنص عن طريق اللون، سوى إيقاع القلب، وخفق الدم، وغربة الجسد عن الرغبة، ومراودات الإرادة والأحلام والرؤيا، وهو إذ يسطر القوة ويؤسطرها كمن يقبع في أعماقه فيلسوفان حاسمان، مثل نيتشه، فيلسوف القوة، وشوبنهور، فيلسوف الإرادة، وربما أبو العلاء المعري، فيلسوف الجحيم وشاعره...
رغم ذلك كله، لا نستطيع التغاضي عن جنون الاحتراب اللوني، كما لا نتغاضي حين ندقق في النص التشكيلي المحمحم المحتدم عن استشعار أزمة هوية في اللوحة، وإشكالية لم تحسم بعد، فكأن في المعرض ثلاثة أساليب، الانطباعية التنقيطية، وهي تتحول على يديه إلى وحشية إيقاعية، وإلى برية وأدغال روح داخلية، والواقعية السحرية،أو التعبيرية، وهي تتحول في لوحته إلى غيمومة في الألوان، وطمس للأشكال، وجعلها في الظلال، متمتمة للألوان، أوكأنها سائلة متدفقة فيها، حين لا يقف اللون في اللوحة، بل تشعر برغبته العنيفة في إشباعها وتخصيبها، وترك احتياطي على جوانبها، ثم مغادرتها عقب الفيض والسيل اللذين يتجمهران ويحتشدان في وعائها الضيق، في وعائها الأكثر سعة من مدى ومسافة، وفضاء.
لا يمكن الاقتراب من لوحة أحمد معلا دون استشعار حرارتها، ودون الاكتواء بجمرها البين والخبيء حتى لو كانت الألوان فاترة أو باردة، أو خامدة، فهي تختزن السخونة إلى درجة الغليان التي تتمظهر في الألوان الدافئة النارية، إنها حالة الاكتواء، وهي تصدر حتى عن تدافع الدم، عن تدفقه وانقذافه في مغاور بصرنا وبصيرتنا، ولا إكراه في ذلك بل الجرأة في معالجة لون واحد عبر لوحة كبيرة، لون خطير ودال على الحياة، اللون الأحمر الدموي، بما يختزن من نورانية، وأضواء وبما يحتمل من سلب وإيجاب، هذا اللون المذبحة، جرحه الفنان بعيون خضراء وزرقاء نادرة كأنما ليعبر عن الأمل، أو كأن الحياة والحلم رغم دمويتها، فهنالك في الأقاصي النائيات، بصيص أمل، يمكن للإنسان في صراعه مع الوجود أن يهتدي إليه، وأن يعمر مساحته، وأن يوسع أرضيته، حتى تغدو صالحة للحياة... عامرة بالعدالة والحرية والحب.
كثير من الحب في اللوحات. كثير من النعم والبركات، في الدم الذي هو الإخصاب والولادة كما هو الشهادة، وكما هو ثمن الانعتاق والتحرر، وهو الحقيقي، حيث أنه الزمان، وعلى الرغم من أن النوم يغمض عيني كل كائن حي، إلا أن الدم لا ينام، وقد أيقظ الفنان هذا اللون لا من الواقع. بل من شقاء الحلم حيث الغضارة والنضارة اللتان لا تزاولان، بينما الأحمر الواقعي يمكن أن ينطفئ ويتلاشى، ويحول ويفسد، إنه يراهن على جوهر هذا اللون، ولا يعوّل كثيراً على أعراضه، صحيح أنه يعاني حريقه، ويكتوي بنيران مواجعه وفواجعه، ويقترن نزيفه بفداحة إلا أنه يتركه في القوة مضمراً، ولا يلقيه في ساحات الفعل كي لا يفسد، لكنه كمن يصيره ويصير به خزائن وكنوزاً، تحتمل الإفادة منها في الأفعال والأسماء والأحوال والصفات.
إن الفنان في معرضه يمارس الإبحار في المشهدية، حيث مجاميع اللوحات، يمكن أن تكون مشهدا، وخاصة اللوحة الوسط، والكبيرة أيضاً تكون ذلك، كما كل لوحة على حدة، كذلك للفنان محرق وبؤر ضوئية، له أيضاً أحوال وتغايرات، من خلال تطييف وتشبيح الأشكال، كما الألوان، ومن خلال توازناتها وانسجاماتها وموسقتها كأنما في نحت موسيقي شرقي غفير العازفين، فيما آلة القانون تحتمل لوحة كبيرة غزيرة النغمات، وتحتمل طبولاً وصنوجاً تجئ إيقاعاتها، وأصداء توقيعها من الخلفيات، من ليل الغابة، ومن السديم البدئي للكائن، الذي يضمرها من أزمان عتيقة، ويستشعرها، كلما عمدت اللوحات إلى إثارة مشاعر الحنين، الأسيانة المتكائبة فيه.
ونستطيع الإفصاح قليلاً عن بنائية اللوحات، كما أفصحنا عن غنائيتها، كما نستطيع القول بتطويع ألوانها ورقرقتها وتموجاتها، مثلما نقول بنفورها وعدم تدجينها، وتناقضاتها، واحترابها في مناطق وأصقاع تتوزع في جوانب من حقول اللوحات، ومن فضاءاتها المنغومة المتناغمة، أو المضطرمة المتعاكسة، الكاسرة الآسرة، وسوى ذلك نطل على عشق غريزي لدى الفنان للألوان، وعلى شعور افتراسي منهوم ماجن وأكول، في إطعامها بعضها البعض أو تفريقها وتعريتها وتشفيتها مما كانت ومما هي فيه للخروج من هذه المعمعة المبهمة العاصفة القاصفة إلى شبه توحد صوفي، حين يتلألأ اللون، ويتجوهر، ويشف عن مكنوناته وخباياه، عن جواهر ولآلئه، وعن ذهبه وفضته، وبرونزه ونحاسه، وحديده كما عن نوره وغباره، وهباء روحه أيضاً.
وكما أننا نحصد ونحطب، ونحصف ونتفصد، ونتجوى عبر اللوحات، يكون لنا أن نسلم بعملية تجوين اللون، وجوائيته، كما يمكن لنا أن نقر للفنان بسفارة الألوان، فهو من خلالها يمارس البحران والهجران، ويعرض ذلك النزف الهاب هنا وهناك، وذلك الرغاء الرغيد، والزبد المتقادم، كما يعرض ذلك التأمل المتأني المتأمل أيضاً، ينبجس من غبق العناصر وعبقها، حين يغضغض في اقتراف الشعاع، والأشعة فوق الحمراء والبنفسجية، كما في أشعة (بيتا وغاما)، لا لشيء إلا لاستنزال الأوهام، وتهاطلها من خلال الألوان كما الأمطار، وإقتناعنا بها، بالحدس والذوق، وليس بالمنطق والعقلانية، فما من شيء عقلاني في نصه، إنه متفلت من كل الضوابط، هارب من كل النظم والمقاييس، فار حتى من نفسه، بسبب الرعب الذي يلقيه الفنان في قلبه، حتى نحس اضطرابه واصطخابه، وتراجفاته، وسكره، أو سمنه الماتع اللذيذ، وهنا يعتنق الفنان والنص التشكيلي بعضهمت، يتماسان، يتكهربان في نشيد الحرية، وفي نشيجها الموشح العريق.
دون أسف، ولا خشية، ولا خوف، نقول أن الفنان في كل تجربة يجنّز نفسه، ويكفن نفسه بالألوان ماصاً منها كل رحيقها، وعطرها، وطيوبها، ونحن نأخذ بخاطره، نتلعثم أمام الحضور النابه، والاحتضار المرح للفنان واللوحات، فنقر له بأنه الأكثر قوة، والأقوى حياة مما هي عليه الحياة، ولو أن غاندية ما وحيادية متوارية، تطل بين لوحة ولوحة لتقول:" أن الفرح والحزن قرائن لا تقر على حال، كما الليل والنهار، والفصول، والزمان، وأن القلق المستبد يمكن احتماله بتفكيكه، وأن الأرق مهران الليل، وإراقة ماء العتمات، وأن هذا النور المليء ربما بالإيمان والضراعة، أو المليء بالشكوك والتلكؤات، والتلبكات والتردد، ربما هو عبارة عن جنوح وتوق إلى إيمان جديد، قد يحظى به الفنان من خلال الفن الذي يختزن قيم الحق والخير والجمال، وإن كان يطوّح بها أحياناً، لحلحلة إشكالات تعترض سبيله، إلا أنه لا يتوانى من العودة، والعودة على بدء دائماً، والسير على الصراط باتجاه الفردوس الحلمي، أو فردوس الطفولة المفقود، باتجاه الخلف، دائماً والماوراء لأن الأمام يودي إلى الجحيم دائماً إلى الجحيم، والفنان الذي يغامر بالتجربة، ليخلص، وليغتسل من الخطايا والآثام، لا بد له في النهاية من الفيء إلى سدرة المنتهى التي تتراءى في اللوحات، حيث يغشى السدرة ما يغشى من الألوان المتباينات ومن المشاعر المعقودة على التفاني في إنسانيتها كما هي معقودة للتطلع والنظر إلى الله....
في التمرئي التشكيلي الذي لا يعكس شيئاً واحداً أو حاسماً، أو ربما يعكس كل شيء، حيث الأشياء في الألوان حبيسة الهيولى، أو مادتها الأولية المفارقة، غير المتمايزة أو المحددة بعد، نلمس بأم أعيننا عودة ظلال الآباء والأجداد، في سرابية اللون واللوحة معاً، كما تجلي النسب فيها، بصفاء عرق، وفحولة ذكرية تتفتق عن قذف أبيض وأحمر، وعن تباه وإعجاب بهذه الروح الضارية التي تتلظى، حتى تكاد تندلق منى موازينها، وتنفرط طلاسمها وأحاجيها، تعاويذها وخرافاتها، وأساطيرها، وفلكلورها التعزيمي، والمدد الذي فيها، وكأن الفنان لا شأن له سوى بالاختراق، والثقب، والتمزيق، وآثار النهش، والتجاوز، والاغتصاب يتجلى أمام الجميع هكذا، غير هياب ولا وجل من شيء، وفيما لو كان واعياً تماماً لما يفعل، لما انحاز عن جنونه الإبداعي، حيث لا تقوى المراقبة، والمكبوت المقموع والمقهور، على طمس ما ينهار من أرض وأمة، وتاريخ، ومجتمع، وقبائل وعشائر، وأسر، وعلى ما ينتهك من ذكورة وأنوثة، وعلى ما يهدر من دم جثث، وعلى ما يتسع من مقابر استحضرها الفنان جميعها، وأشعل نيرانه فيها، واستخلص أخلاطها وأمزجتها، وخلاصاتها ومشائمها، وشغاف قلوبها، وأقام طقوسه وقرأ وساوسه وهذيانه، وتعاويذه، وأذاب بخوره بالجمر. ثم انرشق بكل ذلك على اللوحة، حتى جاءت رائعة مريعة، وهائلة مهولة، حتى اضطرمت، وأبرقت وأرعدت، واكتست من خلال نشرها العظمي، لحماً وعصباً ودماً وأعراقاً وشرايين، نفخ الساحر فيها من روحه، أو نفخ الملائك في الصور، فإذا اللوحات من الأجداث التي في الأجساد والجثث، بدأت تنتشر وتستقيم.
لوحات الفنان ليست شرقية ولا غربية في مجملها، فنورانيتها صوفية، وليست مستقاة من الخارج، كما نستطيع القول أنها (غنوصية مختلطة) لا ترتكن إلا إلى حقيقة بزوغها وولادتها الشفقية الغسقية، وكأنها (شجرة مباركة، لاشرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء....).
وإذا كنا سنتحامل بعض الشيء عقب هذه القراءة العصابية، الفصامية المتوترة، نقول بمرجعية الفنان، وتأثيره وتأثره، فالمرجعية مرجعيات، لكنها محولة، وهي في مجال الإيجاب التشكيلي، أكثر مما هي في مجال السلب كما أنه يدرك ذلك، فيستحضرها، ليلقي عليها بهتانه وليقول لها كن فتكون، كما ليطمسها، ويصهرها في سديم اللوحة، في سداتها ولحمتها، ونسيجها الخلوي القلوي السري الذي يعرف معادلاته، ولا يخطئ بها لا قليلاً ولا كثيراً، وكي لا ألقي عليه قولاً ثقيلاً، يخطئ بها قليلاً، أو أقل من القليل..
إن نسب لوحاته. كأنساب الخيول منها الكريمة، ومنها غير ذلك وكما الرخام بأعراقه وتوريقه الجمالي، أو بصدوعاته الغريبة المريبة، لكن الفنان لشدة انهياله بالحنو والحدب والشغف والحنان على لوحته يلتأم ويلتغم بها تماماً وكأن حضانته ليست سبعة أشهر ولا تسعة أشهر، بل أكثر من ذلك في حمله الصعب، ووحامه القاتل، لذلك يكون فطام لوحته، في عامين، كما ولادتها أيضاً، وهذا زمن كاف للتخمير والكثافة، والتقطير، والتحليل والتركيب، والتربيع والتدوير، كما أنه كاف لكل الأسباب الموجبة التي تعتبر فيضاً وكشفاً وغزواً وسلباً وعدواً، وجرياناً واستجماعاً وزحمة، وحالة إشراق....
حالة الإشراق الماثلة في اللوحات، والتي تتعاضد، وتتضام، ليست نهارية أبداً، إنها جائية، من غور أغوار الليل، ومن ظلمات فوقها ظلمات، في بحر وروح لجيّ، وجسد متفحم من تمارين حرائقه الصغيرة، وحرائق مجراته، ونجومه، وسماواته، وترابه الزنيم، لذلك كان اجتراح اللون معجزة، بل إذا كان "إن من البيان لسحراًً" فهنا بالذات تصدق الترجمة القائلة إن من اللون لسحراً....
معرض الفنان أحمد معلا..
المركز الثقافي الفرنسي – دمشق
من / إلى / 12/ 1993
زهير غانم                                                                                       
دمشق 10/12/1993