Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


أحمد معلا: تهجأت جغرافية سورية في فصول متنوعة  

 

أضحى ليوناردو تراثاً تضمه أروقة المتاحف في حين يبحث الفن الآن عن الخلاص من المتحفية
 
اللعب، الطيران، الظلّ، والرقص، أصول أسلوبية، ونظام حريق يفجّر حركة الريشة على سطح لوحته البيضاء. يقترب بأدائه من لحظة تكسر الجناح حيث الحدّة والشطح والتقطيع المبتور والسرعة والهيام والرغبة كأنه يبحث ويتشرد وراء الصورة الضائعة والمنهوبة للعالم منجرفاً وراء خطوط ورغبات اللون اللاواعية وتبصراته النفسية العميقة.
التقيناه وكان هذا الحوار:
·    ثمة أمكنة تشكيلية، تعمقها بلاغة الظلال، وأمكنة موسيقية، توحي باللغة والكلام والثرثرة الحجرية. حدثني عن ملامح أمكنتك الأولى؟
للأمكنة التي احتضنتني أو تناولتها خصوصيات انتمائي. فهي على محور واحد، إذا ما تعمدت فصلها عن الزمن، أو عن عالم الأحلام الخاص بي، أو عن عالم منقول من تجارب الآخرين.
ولدت على البحر، ترعرعت على شاطئ الفرات في الرقة، سافرت بين المكانين، تهجأت جغرافية سورية في فصول متنوعة، احتضنتني بيوت من تراب وخشب وأخرى من إسمنت وحديد. بيوت أرمنية وكردية وشركسية وآشورية.
وتواجدت في قرية ذات أشجار مختلفة عما نراه عادة في غاباتنا، وتذوقت طعاماً ذا نكهة مختلفة، ولعبت وأنا أحلم مع ضفادع تنفصل أجزاؤها كلما أرادت وحدثني أصدقاء عن السجن... الخ.
الرواية والسينما والتاريخ والشعر قادتني جميعاً إلى أمكنة كثيرة أثرت مخيلتي، وكذا حواسي مجتمعة، لا سيما عندما كنت أتعامى لأفترض وجوداً مختلفاً.
المكان الأول! ربما فراغ في بادية الشام، يشكل مركزاً لدوران الغيوم التي انتهت للتو من الأمطار معلنة نهاية غبار ليل المكان لعدة أيام.
عماء ثم انكشاف.
المكان الأول، هو أبيض اللوحة قبل أن أضع أي إشارة، أو لمسة، قلق يتشهى الرؤى، أو تكون اللمسة الأولى مكاناً أول، أو يسرق الدافع شرف الابتداء.
ربما للرحم صفة المكان الأول ولكنني أذكر أكثر من هذا: ملامسة يديْ والدتي لجسدي.
ربما بقي للميتافيزيق المصنوع من الحكايات الأولى – والدينية منها بامتياز- الأثر الأكثر قدسية، حيث نسعى لإلصاق حجر بجدار من أجل التمكن من التمني الذي سيتحقق.
المكان الأول يتحرك في كرة، وليس من مركز ثابت، إلا بالمعنى الرسمي، كمكان الولادة بالنسبة لسجلات القيد المدني، الظن بالأمام والوراء، والأعلى والأسفل... الخ يشكل دعوة إلى مكان أول لا أجده.
كأنما هو الصفر بالنسبة إلى بقية الأرقام، ابتكاره.
·        بمعنى ما هل بإمكان لوحتك أن تتكشف كسيرة ذاتية؟
ليست لوحتي تكشفاً لسيرة ذاتية فحسب، وإنما هي أكثر من ذلك، إنها باطني مطبوع على قماشتها.
اللوحة هي الرسام نفسه بحضور فيزيائي مختلف، وبحدود موضوعية حتمية، فإن غيبت عقلي أو أحضرته. فالأمر يتعلق بي، ناتج عني، ولهذا فإن إحساسي بوجود أكثر من أحمد معلا، هو محاولة لوعي علاقتي بالزمن، وبنفسي وبالتشكيل في آن معاً.
قد تكون هناك لوحات مبنية مفاهيمياً على التقنية فقط، ولكنها أيضاً تمثل لتوجهات فنية وشخصية، وتقع في نهاية الأمر في سياق السيرة الذاتية.
المواضيع والألوان والأشكال تخرج من التكون الداخلي لها، ومن مدى استسلامي لإنجازها أو رفضي لتقبلها، ولهذا فإن تشريح العمل الفني هو استخلاص للمكونات الداخلية للفنان، ليس فقط على مستوى الفكر وإنما أيضاً على مستوى الفيزيولوجيا.
·        هل الفن إذا فقد واقعه الرسمي يستعيد هويته على حد زعم بيكاسو؟.
لم لا، ما معنى الواقع الرسمي؟ إنه إسقاط العملية الفنية من جذورها في حضن تصور محدود، ولهذا فإنه يصبح تعسفاً، أو يقيناً ما، يلغي الفعالية الفنية ليس عند الفنان فقط، وإنما أيضاً عند الشعب، عند الناس الذين يعتمدون الفن في حياتهم.
إن أبأس لوحات (فلاسكويز) هي التي كانت مطلوبة منه كرسام للبلاط وأعظمها هي التي رسمها لنفسه، كالبورتريه الشخصي، أو إيسبو العبد...الخ.
إن الواقع الرسمي هو آلية محو للتصورات التي تبني العمل، وتشغل عمقه الروحي والصوري، وتعطي للفنان قيمته المرجوة.
رسول حمزاتوف وعى متأخراً جداً عظمة بوشكين الحقيقية التي تجعله شاعراً لكل زمن ووقف موقفاً سلبياً شجاعاً تجاه شعره الذي نتج عن الوقائع الرسمية.
إن الفرق بين الواقع الرسمي والواقع الحقيقي للفن هو كالفرق بين الخروف في المسلخ والخروف في الطبيعة.
·    الرسم على اتصال بالصفات العشر للبصر وهي (الظلام، الوضوح، البريق، المادية، اللون، الشكل، الوضع، البعد، القرب، الحركة، والسكون).
ما هو القداس البصري الذي تلتف حوله جموع الصفات، والعنصر الخالد الذي يقود هذه الأوركسترا المصقولة؟
مضت قرون على برنامج الرسم الذي طرحه ليوناردو دافنشي، والذي كان محقاً به آنذاك، في محاولة لخلق قوانين للرسم في غمار نهوض حضاري، وتأسيس لمفاهيم مرحلة تاريخية، وأدى التطور العلمي بعلاقته مع الرسم إلى استخلاص قوانين جديدة، واكتشاف آليات متنوعة، مما جعل من مدارس الفن التشكيلي تنمو وتتنوع، وإذا كانت هذه الصفات لا تزال تشكل عناصر رئيسية لتناول العمل التشكيلي، إلا أن حرية الفنان تجعل من هذه المعطيات احتمالات نسبية. فليوناردو يتمثل عصره بامتياز وهذا جعله أسير قوانين جمالية وفنية مرتبطة بعناصر المنظور، وتقنيات اللون...الخ
في حين أننا اليوم نبحث عن مشارك للطبيعة في خلقها للصور المتنوعة، والجديدة نلجأ إلى الابتكار، ابتكار أحاسيس جديدة ودهشة جديدة. لقد أضحى ليوناردو تراثاً، تضمه أروقة المتاحف، في حين يبحث الفن الآن عن الخلاص من المتحفية.
·        اللوحة لديك تمتلك زماناً قوياً طاغياً؟
أعتقد أن الزمان هو السيد، أما المكان فعبد، وهذا ما يمنح تجربتي حيويتها، فبالنسبة لي يتحرك المعرض الذي أقيمه كتجربة محدودة في زمام محدد مما يسمح لي بالانتقال إلى غيرها. وكذا التجريب أو الإنجاز الذي أصوغه، فتنفتح لي أبواب متنوعة تدفعني إلى الالتقاء بذاتي باستمرار في هيئات مختلفة.
أراني متبدلاً طوال الوقت، ولشخصيتي التشكيلية هذا الخلاص من اليقين، بحثاً عن أحمد معلا آخر، يتقارب مرة ويتباعد عن العناصر المكونة لسلفه.
هناك أزمان متعددة، زمان شخصي، زمان افتراضي، زمان تاريخي، زمان مستقبلي، زمان مطلق... الخ. استحضرها جميعاً لإغناء فعالية عملي التشكيلي وإثراء لوحتي.
أما طغيان الزمان فهو مرتبط بالتحولات والتبدلات والانزلاق التي تشكل انعكاسات تشكيلية تغرق اللوحة بعناصرها بالترددات الناتجة عنها وكأنني أرسم رسالة تضج بدعوة المشاهد إلى فهم الزمن ودوره، وبالتالي إلى بناء الذاكرة باستمرار و إعادة ترتيبها. وعلى الأقل إثارة السؤال حول الزمن نفسه.
ولعل تجارب 1988 حيث تتوزع في اللوحة الواحدة مجموعة من المشاهدات /الوقائع/ اللحظات، وما طبقته في معرض "تحية إلى سعد الله ونوس-1997" أمثلة تعج بهذه العلاقة مع الأزمان.
·   إن مزجاً بالغ الرهافة يكسب لوحتك، العاصفة بنزق ريشة حماسية، ومتقطعة، سلسلة من الإطلالات على هندسة بصرية تزاوج بين البعثرة، واللعب، وزعيق الرغبة وآثار حركة اليد التي تقودها العين؟.
ربما في الواحدة من تطلعاتي أجدني محاصراً في شرك رسم الرسم نفسه، حيث لا يصنع الفوضى سوى النظام، والضد يظهر حسنه الضد، حيث الاستهتار بشيء يمنحه قيمته، الشكل والمعنى هما الآنية والمادة المصنوعة منها وليس ما تحويه. هي حادثة ومن ثم تتم عملية انتخاب تصميم مسبق، عماء لا يلبث أن ينضبط كحبل حمض نووي.
وكأن اللوحة تستعيد الحياة منذ بدئها وإلى الآن في كل مرة وربما في أكثر من لوحة، الفن استعادة للحياة، لشريط الحياة ولهذا يبدو للبعض أن الكثير من الفنانين هم أطفال أو مجانين يلعبون.
نعم في كل مرة نتعلم المشي والاندهاش وكأن الفنان لا يقنع بالبديهيات أو أنه ينتظر دائماً شيئاً خارقاً أو أنه يعمل على استقدامه، يراهن ويغامر ويحبط ثم يجد في استملاح اللغز الذي يبدو للآخرين مسلمة الأكثر موضوعية قابل للتعرض للخلل ولهذا عليه أن ينتقي موضوعه من الزمان الممتد خارج الانضباط بالشروط المؤقتة حتى لو كانت شروطاً لملايين السنين فهي مؤقتة عنده.
من جهة أخرى، لا أقصد بالفنان فرداً متوحداً وإنما حلقة في سلسلة طويلة من التجارب الإنسانية تسمح له بالأطلال على هوة الرؤى وكأنما هو العارف الذي لا يكنه نقل معرفته في محاولته التمكن من أدواته ويبدد الكثير من أجل وجوده في الخير الاجتماعي  الذي قد يلعب دوراً سلبياً أو إيجابياً بحسب المرحلة التي تجمعها.
·        كبرت على ضفاف الفرات وثمة حرائق لم يطفها هذا النهر؟
في فكرة الشاعر العربي القديم كشاجم بما معناه:
إذا غيمة مرت فأمطرت                             أشعلت الأرض نارا"
وكذا الفرات لقد نمت الحضارات على ضفافه منذ آلاف السنين ولقد جاورته في طفولتي وحتى أول شبابي إذ عشت في مدينة الرقة التي شكلت الرحم الثاني لكينونتي.
كانت الأحلام التي ترسم صور التحرر بكل أشكاله معلقة في الأفق الذي تنطلق إليه خطواتنا مستعدين للإيمان بأية فكرة في سبيل بناء الوطن ومجهزين للموت في سبيله.
كان الفرات يفيض فيغرق ويدمر وتمثلناه ثم ما لبثت أن أقيم سد عليه وها هي تركيا مدعومة من أمريكا تكاد تقبض عليه.
·        هل يندثر الفن؟
الرسم والمهارة والروعة عناصر تجهز العقل ليتمكن من التذكر والتفكير والتخيل وجميع آليات الإبداع والابتكار تمنح الملاحظة فعاليتها وقدرتها على التحكم بالملاحظ. ولذلك لا يمكن تصور حياة دون فن. هل يمكنك تصور إنسان دون جهاز عصبي؟ لنقل إذاً بأن الفن سيندثر مع اندثار الإنسان فالارتباط عضوي بينهما ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.
حوار: أكرم قطريب